فصل: تفسير الآية رقم (34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (34):

{وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)}
{يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ} أي ولجعلنا لبيوتهم، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية {أبوابا وَسُرُرًا} أي من فضة على ما سمعت، وقرئ {سررًا} بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسمًا باتفاق وصفة نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة {وَجَدْنَا عَلَيْهَا} أي على السرر {يَتَّكِئُونَ} كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}
{وَزُخْرُفًا} قال الحسن: أي نقوشًا وتزاويق، وقال ابن زيد: الزخرف أثاث البيت وتجملاته وهو عليهما عطف على {سَقْفًا} [الزخرف: 33]، وقال ابن عباس. وقتادة. والشعبي. والسدي. والحسن أيضًا في رواية الزخرف الذهب، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما، وقيل: إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضًا، ويشير إليه كلام الراغب قال: الزخرف الزينة المزوقة ومه قيل للذهب زخرف، وفي البحر جاء في الحديث: «إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان»، وقال ابن عطية: الحسن أحمر والشهوات تتبعه؛ ولبعض شعراء المغرب:
وصبغت درعك من دماء كماتم ** لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

وهو على هذا عطف على محل {مِن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] كأن الأصل سقفًا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفًا على المحل، وجوز عطفه على {سَقْفًا} [الزخرف: 33] أيضًا.
{وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة} أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرئ {وَمَا كُلُّ ذلك الحياة الدنيا} وقرأ الجمهور {لَّمًّا} بفتح اللام والتخفيف على أن {ءانٍ} هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] في قراءة من رفع النون، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة {لَّمًّا} بكسر اللام والتخفيف على أن {ءانٍ} هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفًا. وحق التركيب في مثله الاتيان باللام الفارقة فيقال: للمامتاع لكنها حذفت لظهور إرادة الاثبات كما في قوله:
أنا ابن أباة الضيم من آل مالك ** وإن مالك كانت كرام المعادن

بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي {والاخرة} أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان {عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ} خاصة لهم، والمراد بهم من اتقى الشرك، وقال غير واحد: من اتقى ذلك والمعاصي، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فهيا، وقد أخرج الترمذي وصححه. وابن ماجه عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء» وعن علي كرم الله تعالى وجهه الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا} [الزخرف: 33] على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}
{وَمَن يَعْشُ} أي يتعام ويعرض {عَن ذِكْرِ الرحمن} وهو القرآن، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، وجوز أن يكون مصدرًا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن، وأن يكون مصدرًا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه، وقرأ يحيى بن سلام البصري {يَعْشُ} بفتح الشين كيرض أي يعم يقال: عشى كرضى إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خير نار عندها خير موقد

أي تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم:
أعشو إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري جارتي الخدر

لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول، وقال بعضهم: لم أر أحدًا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال: عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال: عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقه فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة، وقرأ زيد بن علي {يعشو} بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش، ووز كون الفعل مجزومًا بحذف النون والواو ضمير الجمع، وقد روعي فيه معنى من، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر.
{الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نتح له شيطانًا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى.
{فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} دائمًا لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية زيد اكتساب السيآت، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. والأعمش ويعقوب. وأبو عمرو بخلاف عنه. وحماد عن عاصم. وعصمة عن الأعمش وعن عاصم. والعليمي عن أبي بكر {يقيض} بالياء على إسناده إلى ضمير {مُّقْتَدِرِ الرحمن}، وقرأ ابن عباس يقيض بالياء والبناء للمفعول {شيطان} بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرئ بالرفع، وفي الكشاف حق من قرأ {مِنْ} بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة، وجوز على ذلك أيضًا أن يكون {يقيض} مرفوعًا لكنه سكن تخفيفًا.
وفي البحر يجوز أن تكون {صَلَحَ مِنْ} موصولة وجزم {نُقَيّضْ} تشبيهًا للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعًا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولًا لا وشرطًا، قال الشاعر:
لا تحفرن بئرًا تريد اخًا بها ** فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ** تصبه على رغم عواقب ما صنع

انشدهما ابن الأعرابي وهو مذهب للكوفيين، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببًا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}
{وَإِنَّهُمْ} أي الشياطين الذين قبض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو {لَيَصُدُّونَهُمْ} أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس، وجمع ضمير من رعاية لمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ. وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة اطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال إن الشرط يعم النكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأبياري شارح كتابه ردًا عنيفًا، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرًا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين. أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانًا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعًا في قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ} فإنه عائد إلى الشيطان قولًا واحدًا ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا اشكال، فهذه نكتة تجد عند سماعها المخالفي هذا الرأي سكتة. والنكتة الثانية أن فيها ردًا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضًا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في {يَعْشُ وَلَهُ} وعلى المعنى في {لَيَصُدُّونَهُمْ} ثم على اللفظ في {حتى إِذَا جَاءنَا} [الزخرف: 38] وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر نعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى.
وفي كون ضمير {أَنَّهُمْ} عائدًا على الشيطان قولًا واحدًا نظر، فقد قال أبو حيان: الظاهر أن ضمير النصب في {أَنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ} عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير {أَنَّهُمْ} على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في {أَنَّهُمْ} ومن بعده فلا تغفل {عَنِ السبيل} المستبين الذي يدعو إليه ذكر الرحمن {وَيَحْسَبُونَ} أي العاشون {أَنَّهُمْ} أي الشياطين {مُّهْتَدُونَ} أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو يحسب العاشون ان أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما.
والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضًا، والجملة حال من مفعول {يَصِدُّونَ} بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتهمالها على ضميريهما أي وأنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه.
وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (38):

{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)}
{حتى إِذَا جَاءنَا} فإن {حتى} وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينة يوم القيامة {قَالَ} مخاطبًا له: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} أي في الدنيا، وقيل: في الآخرة {بُعْدَ المشرقين} أي بعد كل منهما من الآخر، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج والفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصول والجزيرة وأضيف البعد إليهما، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الالباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من احدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر، واشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضًا، وقال ابن السائب: لا تغليب، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها {فَبِئْسَ القرين} أي أنت، وقيل: أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى.
وقرأ أبو جعفر. وشيبة. وأبو بكر. والحرميان. وقتادة والزهري. والجحدري {جاءانا} على التثنية أي العاشي والقرين.

.تفسير الآية رقم (39):

{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}
وقوله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ} إلخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عز وجل توبيخًا وتقريعًا، وفاعل {يَنفَعَكُمُ} ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور {اليوم} أي يوم القيامة {إِذ ظَّلَمْتُمْ} بدل من {اليوم} أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلًا من {اليوم} وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

وأورد عليه أن السؤوال عائد لأن {إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتقصى بعضهم عن الاشكال لأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجًا بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال} [غافر: 70، 71] وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم مجتجًا بقوله سبحانه: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] فلتكن هنا للاستقبال، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي.
وقال الجلبي: لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي، فقد قال سيبويه: إنها عنى التعليل حرف نزلة لام العلة، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة:
فإن القول ما قالت حذام

وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضًا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان: لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفًا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جنى: راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارًا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه إذ لا يجري عليه عز وجل زمان فكأن {إِذْ} مستقبل أو {اليوم} ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء: التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف لعلم به، وقال الحوفي: {إِذْ} متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلًا.
ومن الناس من استشكل الآية من حيث أن فيها إعمال {يَنفَعَكُمُ} الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاحضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن {اليوم} تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعيرف الآن وان كان نوعًا منه.
وقيل: يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل.
وقوله تعالى: {أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ} تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا.
وجوز أن يكون الفعل مسندًا إليه أي لن ينفكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ** وأذكره بكل مغيب شمس

ولولا كثرة الباكين حولي ** على اخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** اعزى النفس عنه بالتأسي

فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكلم: {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 68] وقولكم: {فآتهم عذابًا ضعفًا من النار} [الأعراف: 38] لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع التعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخظر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابًا.
وقرأ ابن عامر {إِنَّكُمْ} بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولًا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظًا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلًا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافًا تعليليًا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان.